سيلفيا كاتوري

Français    English    Italiano    Español    Deutsch    عربي    русский    Português

د. ناديا خوست
الشعب السوري يواجه الحرب الاستعمارية

.

8 أيار (مايو) 2012


أسئلة موجعة

يفهم السوريون أن تدمير البنية التحتية، نهب المستشفيات وحرق المعامل والمدارس والمؤسسات العامة، ونسف أنابيب النفط والغاز وأبراج الشبكة الكهربائية، يقصد، كالعقوبات الاقتصادية العربية والغربية، أن يجعل حياتهم صعبة! يفهمون أن الدعم السياسي والمالي والعسكري الغربي والخليجي للمسلحين، ينبش المنحط في البنية الاجتماعية، ويطلق الجشع الذي كبتته القوانين وهيبة الدولة، فتظهر عصابات تخطف وتطلب الفدية، وتجار يحتكرون المواد ليرفعوا أسعارها! يفهمون ذلك لأن المشروع السياسي الاستعماري الصهيوني: تفكيك البنية الاجتماعية، وتجزئة الوطن إلى أمارات مذهبية، لتكون إسرائيل قوة وحيدة في منطقة ستراتيجية.

لكن مالا يستطيع السوريون فهمه وحشية العصابات المسلحة. ودناءه التمثيل بالقتلى وتقطيع الجثث. ربط شاب في ريف دمشق إلى سيارة جرته على الأرض حتى تمزق. وشنقت فتاة شابة لأنها شهدت للتلفزيون أن العصابات المسلحة تقتل الأبرياء. علقت في غرف التعذيب خطّافات كالتي تعلق بها الخرفان المذبوحة، وسجل الجلادون على جدرانها أن كتيبة خالد بن الوليد الليبية "مرت من هنا"! ذبحت أسرة كاملة بقي منها طفلان يتيمان شاهدا المجزرة من مخبئهما، ورويا باكيين أن العصابة المسلحة أحرقت جثث أهلهما. يحكي القتلة ببساطة من يروي حكاية، أنهم يغتصبون النساء ثم يقتلوهن، ويصورون تلك الفظائع لتسوّقها قناة الجزيرة. تضع مئات المشاهد الدامية أمامنا أسئلة قاسية: كيف ظهر اولئك الوحوش في المجتمع السوري الذي ربي على الرحمة، وأنشد قصائد نزار قباني ومفرداتها العذبة؟ كيف غفلنا عن تسرب الوهابية المتوحشة التي احتلت مكان التسامح والرحمة؟ لماذا خيل إلينا أن فرق الموت في أمريكا اللاتينية وفي الجزائر من زمن مضى؟ ولكن، أليس المجرمون الحقيقيون هم السياسيون الغربيون الذين يسبغون على العصابات صفة "الثوار"، ويدعمونهم علنا بأجهزة الاتصالات (كلينتون)، وبقرار يحضرونه في مجلس الأمن تحت البند السابع (جوبيه)، ويفتحون لهم المعسكرات على الحدود والغرف التي تديرها المخابرات الفرنسية والأمريكية والبريطانية والإسرائيلية (أردوغان واوغلو)، وأنظمة الخليج الاستبدادية التي تمول العصابات وتشتري الأسلحة؟ أليس المسؤول، الإعلام الغربي الذي يتجاهل شهادات الجرحى الناجين من المجازر، وتقرير المراقبين العرب، ويشارك بالكذب في الحرب الاستعمارية الصهيونية على الشعب السوري؟ أمس أوقف الجيش اللبناني سفينة محملة بمئة وأربعين طنا من الأسلحة نقلتها من ليبيا لتسرب إلى سورية. أبحرت السفينة تحت نظر الاونيفيل والإسرائيليين، بحماية غربية ودولية. فهل أدين هذا الخرق لخطة عنان، وتوظيف ليبيا في تصدير عصابات القاعدة؟ في يوم الجمعة فجر انتحاري نفسه في المصلين الخارجين من جامع في حي الميدان في دمشق، وتبنت "القاعدة" العملية. وفي الأسبوع نفسه فجر انتحاريان نفسيهما في إدلب فدمرا أبنية سكنية. وخطفت العصابات المسلحة أحد عشر باحثا علميا، وقتلت طبيبا، وقصفت بقذيفة ر ب ج المصرف المركزي السوري، واغتالت مرشحا لانتخابات مجلس الشعب في إدلب، ومرشحا آخر في درعا، فهل أدان السياسيون الغربيون أو صحافتهم الاعتداءات على بيوت سكنية ومؤسسة مدنية اقتصادية وكفاءات علمية ومرشحين لانتخابات تشريعية؟
يكتشف من يتأمل الدمار في حمص آثار حرب حقيقية. يكتشف أن "بابا عمرو"، الإمارة الإسلامية التي ادعى الصهيوني برنار ليفي أنها واحة الثورة، قلعة عصابات وسجون ومراكز تعذيب وإرهاب! على طول الشوارع التي كانت تحتلها العصابات استحكامات عسكرية، وبيوت هجّر سكانها وهدمت جدرانها الداخلية ليتنقل فيها المسلحون بسهولة.

مع ذلك يسمي الإعلام الغشاش، والسياسيون الاستعماريون، المجرمين ثوارا وجيشا حرا! ولاتوضع على طاولة الأمم المتحدة إسرائيل التي ارتكبت مذابح قانا وجنين وغزة، وتعتقل آلاف الفلسطينيين. بل توضع سورية التي تسند المقاومة العربية. ويغيظ "المجتمع الدولي" أنه لم يوفّق في تكرار المأساة الليبية في سورية، فيستعيض عنها بتفجير العبوات الناسفة، والسيارات المفخخة، والاغتيالات اليومية.

في المستوى المحلي تواجه سورية عبء البنية التحتية المدمرة، وأثر الحصار الاقتصادي. تحصي المحافظات الأضرار لتعوض الناس عنها. ولكن هل يمكن إحصاء خسائر آلاف اليتامى والأرامل والثكالى والمعوقين؟ وهل يقاس وجعنا الروحي في مجتمع عرف بالدماثة والرقة والنفور من القسوة، وأسّس التربية التقليدية على الرحمة، ففاجأتنا فيه الوهابية الوحشية؟ يكتسحنا السؤال: كيف قاسَمَنا اولئك الوحوش هواءنا وماءنا، وغاب الأمن الرسمي عن رصد تلك المجموعات، وغابت الأحزاب السياسية عن رصدها أيضا؟ ستدمي تلك الأسئلة قلوبنا زمنا.

وهناك وجع آخر: وجع سياسي. من سورية انتشر في منتصف القرن الماضي نشيد "بلاد العرب أوطاني"، في الأرض العربية. وألهمت سورية المقاومين العرب. حملت سورية بشهامة واجبات موقعها الجيوسياسي: احتضنت نصف مليون لاجئ فلسطيني هجرتهم إسرائيل، ومليونا ونصف المليون عراقي لجؤوا إليها من الغزو الأمريكي، وآلاف اللبنانيين الذين لجؤوا إليها وقت العدوان الإسرائيلي على لبنان، ووهبتهم حقوق المواطن في العمل والضمان الصحي والتعليم والسكن. وهاهي الأنظمة الرسمية تتآمر مع إسرائيل والولايات المتحدة على سورية، والعصابات العربية والإسلامية المسلحة تتسرب من البلاد العربية المجاورة وتمارس قتل السوريين، والجامعة العربية تستخدم لتنفيذ المشروع الغربي الصهيوني في سورية!

الليبيرالية الجديدة

تحدث الأزمات عندما تصطدم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بالحاجات والطموح الإنساني، فتصبح في وضع يستدعي تغييرها. يوم رحلت مرحلة تاريخية عالمية بسقوط الاتحاد السوفييتي، فهم السوريون أنهم فقدوا سندا قويا. وبدا أن التغيير السياسي والاقتصادي ضرورة. مع ذلك حمت سورية مكتسباتها الثقافية والاقتصادية: القطاع العام، ودور الدولة في التجارة الخارجية وتخطيط الاقتصاد، والثقافة للجميع، والتعليم المجاني، والمؤسسات الاستهلاكية، ودعم المواد الأساسية، ومكانة نقابات العمال واتحاد الفلاحين في القرار الاقتصادي والسياسي. استمرت خطة "الأمن الغذائي" وزرعت ملايين أشجار الزيتون في الشمال السوري. اجتازت سورية بحكمة فترة انهيار المعسكر الاشتراكي، ولم تلتحق بالسوق الرأسمالية العالمية. لكن الفساد أفاد من القطاع العام. وبدا للطفيلية المحلية وللغرب أنها يمكن أن تغير البنية الاقتصادية السورية والنهج السياسي السوري. أوهم الاوروبيون سورية بأنهم مستعدون للمساهمة في تطوير الاقتصاد والبنية الإدارية. فعشنا "انتشارا" اوروبيا، وأنشئ معهد يعدّ إداريين لقيادة مؤسساتنا على الطريقة الغربية، وأعد مشروع ضمّ سورية إلى السوق الاوروبية المشتركة. كانت أشتون، التي تهدد سوريا اليوم، مبتسمة وراضية في زياراتها إلى دمشق. ألغيت "الفتوة" التي توحي بعسكرة الطلاب، وبزغت جمعيات غير حكومية. بدا أن القطاع العام يجب أن يرحل. لم تتذكر الطبقة الصاعدة أن مشروع خالد العظم، الرأسمالي الوطني، كان في خمسينيات القرن الماضي تأسيس قطاع عام ضخم بمساعدة الاتحاد السوفييتي. وتجاهل الإعلام السوري حديث تشافيز عن تأميم الشركات الكبرى، يوم زار سورية.

لم تعد العلاقات السياسية والاقتصادية تناسب الطبقة الطفيلية ذات النفوذ السياسي التي أنبتها الفساد. كان الإصلاح حاجة. ولكن في أي اتجاه، ومن يقوده؟ إصلاح التعليم في اتجاه حيوية الجامعات والمدارس، أم إنشاء جامعات ومدارس خاصة تعلم باللغة الإنكليزية؟ تنظيف القطاع العام من الفاسدين والترهل الإداري، أم التنازل للقطاع الخاص عن دور الدولة في إدارة الاقتصاد، وإلغاء دعم المواد الأساسية؟ في ندوة الثلاثاء الاقتصادي الأسبوعية انتقد الاقتصاديون لبرلة الاقتصاد، وإهمال القطاع العام، وتقديم الخدمات والسياحة على الإنتاج الزراعي والصناعي. خطط وزير السياحة، الذي جسد وقتذاك الليبيرالية الجديدة، حتى استثمار المواقع الأثرية، واستملك بساتين مدخل دمشق التاريخي لمشاريع الفنادق العالمية، وسطا على الشاطئ السوري. وخطط محافظ حمص لملاعب غولف، ومدينة ديبلوماسية، وأبراج قَطَرية، كأنه يعدّ حمص لتكون أمارة مستقلة. وتغافل، طبعا، عن الأنفاق التي تشيد تحت الأرض! ولم يحاسب لأنه نظّم ساحة مستوحاة من ساحة هولوكوست في برلين. قاومت نقابات العمال ذلك الاتجاه، واعترضت على تأجير مرفأ طرطوس واللاذقية لشركات أجنبية. في هذا المناخ تقدم رجل الأعمال على المثقف. ونقل الليبيراليون الاقتصاد من إنتاجي صناعي زراعي إلى عقاري سياحي. واقتحمت ثقافة "الاستثمار" الحياة العامة، وصارت لوحات الشوارع للدعاية لشركات السيارات وشركات الملابس العالمية، وكتبت لوحات المخازن باللغة اللاتينية. واجتاحت صدور القمصان اللغة اللاتينية مع أن اللغة العربية أكثر إمكانيات زخرفية. انتشر الفقر، وانهارت الطبقة الوسطى. لم يلاحظ السياسيون، لأنهم لايتحركون إلا بالسيارات، أن منطقة انطلاق المواصلات إلى الريف تكشف عن فقر لاسابق له في سورية. وأن الخارج يمكن أن يستغل الفقر والتذمر. هل أوهمت السطوة أن استملاك الأراضي الزراعية لأبنية سكنية خاصة أو مجمّعات قررتها الدولة لموظفيها، سيكون دون نتائج سياسية؟ كيف غاب أن الفساد والأخطاء والإدارة السيئة ذات ثمار سياسية؟ وأن الغبن جمرة قد تشعل نارا إذا هبت عليها ريح مواتية!

كتب الدكتور منير الحمش: في موضوع الإصلاح الاقتصادي برز اتجاهان، الأول يريد استعادة دور الدولة التنموي وإصلاح القطاع العام ويتمسك بالقرار الاقتصادي المستقل. والثاني يريد اقتصاد السوق الحرّ وتولي القطاع الخاص قيادة الاقتصاد. "ماجرى تطبيقه هو اعتماد السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية الليبيرالية التي تندرج في جدول أعمال المؤسسات الدولية، صندوق النقد الدولي، المصرف الدولي، منظمة التجارة العالمية.. حدثت تحولات اجتماعية واقتصادية في العمق بتحرير التجارتين الداخلية والخارجية وتأسيس المصارف.. وأدت هذه السياسات إلى إضعاف قبضة الدولة القانونية، ونشر أجواء الفساد.. وعملت الإدارة الاقتصادية بوعي على ذلك.. تمكنت من إنجاز التحول في الهياكل والأطر الاقتصادية في سورية نحو اقتصاد أكثر انفتاحا وتنافسية واندماجا في الاقتصاد العالمي.. مع تغيير واسع في دور الدولة. ودليل نجاح هذا النهج وصوله إلى نقطة اللاعودة".

الشعب السوري يدافع عن الوطن

أسّس الخراب الاقتصادي الذي رسمته الليبيرالية لتغيير النهج السياسي. لكن تنفيذ ذلك كان مستحيلا. لأن الموقف السياسي السوري متصل بالثوابت القومية التقليدية، وبدور سورية كحاضن للقومية وقضية فلسطين، ومتصل بوجود سورية نفسها. (مثلا، في سنة 1911 كشف المندوبون السوريون في البارلمان العثماني تسلل المستوطنين اليهود الغربيين إلى فلسطين، وبينوا أن الاتحاديين يسلّمون الدولة العثمانية للبنوك اليهودية الغربية ويفرّطون بفلسطين. ولازم إعلان استقلال سورية سنة 1920، رفض أن تعطى فلسطين للصهيونيين. وفي سنة 1936 شارك المتطوعون السوريون في الثورة الفلسطينية، وشاركوا سنة 1948 في مقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين). ولكن أين القوى السياسية التي تستطيع أن تواجه المؤامرة الكبرى الغربية العربية؟! بيّنت الأزمة خطر انعزال الأحزاب السياسية عن الشعب، وخطأ القيود التي وضعها ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية على نشاط أي حزب، غير حزب البعث، بين الطلاب.

مأثرة الشعب السوري أنه نزل إلى الشوارع لحظة تبين أن المسألة ليست تغيير النظام، وليست الإصلاحات، بل اقتلاع موقع سورية الوطني وتقسيمها. تدفق الشعب السوري في الشوارع والساحات. تقدمته النساء اللواتي لم يشاركن من قبل في عمل سياسي، وأعلن أنه يرفض التدخل العربي والأجنبي. أنهت تلك الملايين التظاهرات الهزيلة من الجوامع أيام الجمعة. ويوم خرجت مظاهرة كبرى من الجامع الأموي في دمشق كان ذلك إشارة بليغة إلى موقف شعبي حاسم. دافع الشعب السوري عمليا عن الوطن. وشجع الجيش لأنه فهم أنه العمود الفقري في الأمن والتماسك الوطني. وانضم إليه رجال الدين المسيحي والإسلامي. هكذا تجاوز الشعب السوري السياسيين. وبفضله أمكن لروسيا والصين أن تدافعا عن سورية.

عزلة الأحزاب السياسية

أسست الجبهة الوطنية التقدمية في سنة 1972 وضمت حزب البعث العربي الاشتراكي، والحزب الشيوعي، تنظيم الوحدويين الاشتراكيين، وحركة الاشتراكيين العرب، الحزب الوحدوي الاشتراكي، الاتحاد العربي الديمقراطي وفيما بعد الحزب القومي السوري. وسجل ميثاقها الالتزام بنمط الاقتصاد "الاشتراكي". خالف اعتماد اقتصاد السوق إذن، الذي أقره مؤتمر حزب البعث سنة 2005، الوثيقة التي أنشئت على أساسها الجبهة الوطنية. وخالف نص الدستور. سألتُ السيد يوسف فيصل رئيس الحزب الشيوعي السوري، عضو القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية: ألم توفّقوا في معارضة اقتصاد السوق؟ قال: نعارضه، ولكن لافائدة. لايستمعون إلينا. كان الخلاف محوريا، إذن. مع ذلك لم ينسحب الحزب الشيوعي من الجبهة. فهل منعه فقط الموقف السوري السياسي الوطني الذي يدعم المقاومة؟ اتهم السوريون أحزاب الجبهة بأنها تستمرىء مكتسباتها: السيارات الفخمة، والمكاتب، والوظائف. كان مايجري فادحا: فتح اقتصاد السوق سورية للبضائع التركية، فكسر ورشات الموبيليا السورية التي تقع في ريف دمشق، ومعامل النسيج، ورفع الأسعار، وباع الشاطئ السوري لبعض الأغنياء شركاء الخليج، وتطاول على حقوق المواطنين، وهدر المال العام. فهل أوهمت الليبيرالية أحزاب الجبهة أن السياسة الوطنية السورية يمكن أن تستمر ولو صار الاقتصاد السوري في مكان آخر؟

قبل الليبيرالية وبعدها، حبست الجبهة الأحزاب السياسية في مكاتب بعيدا عن الشعب. وألغت تمايزها. شاعت نكتة: كان رجل من الحزب الشيوعي يضع لوحة فوق مقر حزبه كتب عليها: "الحزب الشيوعي السوري"، التفت فوجد رجلا يراقبه فأكمل: "لصاحبه حزب البعث العربي الاشتراكي". من المؤسف أن السياسيين لم يحلّلوا أمثال هذه النكتة ليستنتجوا الموقف السياسي الشعبي. يبدو أن الثقة بوطنية الشعب السوري، وحكمته وصبره، وأن شعور الأحزاب بحقها في الوصاية عليه، سهلت بعد الأحزاب عن الشعب. اعتمدت الجبهة سياسة تبدو الآن آثارها السلبية. فلكل من أحزاب الجبهة حصص في الوظائف والوزارات والمكاتب التنفيذية في النقابات والاتحادات. وقد نَعِم أصحابها بامتيازات، واعتمد اختيارهم على القرابة والصداقة لاعلى الكفاءة. وزاد ذلك في بعد الشعب عنهم. أظهرت الأزمة خطر ذلك. فلو كان للسياسيين نفوذ في الشرائح الاجتماعية المغبونة والفقيرة لاتجهت إلى عمل سياسي ببرنامج وطني. لكن شيوخ الجوامع المتخلفين والوهابيين وعملاء قطر والموساد والسعودية هم الذين استولوا عليها، ونثروا المال والأفكار، وفي اللحظة المناسبة سرّبوا السلاح. قال لي السياسي الفلسطيني الوطني بسام الشكعة، رئيس بلدية نابلس سابقا، الذي فجرت إسرائيل سيارته ففقد ساقيه: المشكلة أن المناضلين صاروا موظفين! كان يتحدث عن فلسطين، لكن ذلك ينطبق على سورية أيضا.

ظاهرة جبهة التغيير

وسط الشرائح الاجتماعية الدنيا، لانفوذ، أيضا، للمعارضة السياسية الوطنية. وقد استغلت العصابات هذا الفراغ. فالمعارضة السياسية المحلية أشخاص متمايزون في الثقافة والفكر، دون مشروع متماسك، ظهروا خلال الأزمة، دون مسار سياسي يعرفه الشعب. في هذه الظروف نفهم شعبية جبهة التغيير التي تجمع حزب قدري جميل "الإرادة الشعبية"، وحزب علي حيدر "القومي السوري الاجتماعي"، وشخصيات مستقلة منها السيد نعيسة وقسّ شاب. تتميز هذه الجبهة بموقف ثابت يرفض التدخل الخارجي، وبأنها نشيطة ومستقلة، وتسجل في برنامجها الانتخابي لمجلس الشعب: "محاسبة الفساد الكبير". تذكر بعض المواقع الإلكترونية أن قدري جميل ابن تقاليد شيوعية قديمة. وهذا صحيح. فقد كسب خبرة سياسية من حزب كان ذا دور وطني، وأفاد من المنظومة السياسية التي ربي عليها في تحليل الأزمة. ولم تحجب عنه السياسة الرسمية الوطنية خطر انزلاق سورية في الليبيرالية الجديدة، فجمع في جريدته جبهة اقتصادية تنبه إلى نتائجها السياسية. وجسد بتحالفه مع قوى سياسية شابة الطموح إلى التغيير مع حماية المكتسبات الوطنية والاتجاه السوري الذي يدعم المقاومة. ويوظف الآن علاقته القديمة بروسيا في الاتجاه الذي يتمناه الروس: معارضة واقعية تريد الإصلاح، وترفض التدخل الخارجي والعمل المسلح. وقد زار وفد من هذه الجبهة المعارضة روسيا مرتين.

تشهد جبهة التغيير على الخلل في الحياة الحزبية والسياسية الماضية. فعادة الأحزاب أن تُخمد من تستبعده فتشوه سمعته لتقصيه عن الحياة العامة. لكن قدري جميل تمرد على ذلك القدر، فنظم تجمعا من الشيوعيين، وملأ الفراغ الذي انحسر عنه السياسيون بين المستقلين، وخلال الأزمة اجتمع في جبهة مع علي حيدر والقوميين السوريين غير الممثلين في الجبهة الوطنية الرسمية. فأثار التساؤل: لماذا فقدت الأحزاب السياسية طوال العقود الماضية مثل هذه الكفاءات، ونزفت أفضل من فيها؟

سؤال آخر تثيره الأزمة: هل كان احتكار حزب البعث النشاط العام في المصلحة الوطنية؟ أم أنه سبّب انحسار السوريين عن الحياة العامة، حتى استدعاهم الخطر على الوطن؟ في غياب الأحزاب التقليدية، تملأ الساحة الشعبية اليوم مجموعات من الشباب من منظمات جديدة متنوعة، يجمعها الدفاع عن سورية ورفض التدخل الخارجي. تنشر يافطات من مئات الأمتار لجمع التوقيعات عليها، وتنظف الحدائق التي خربتها العصابات المسلحة، وتزور الجرحى في المستشفيات، وأسر الشهداء في المناطق التي تجري فيها اعتداءات مسلحة، وتجمع المساعدات للمهجرين السوريين وترتبها في علب، وقد شاركهم رئيس الجمهورية وزوجته العمل في أحد الأيام. تبدأ هذه المجموعات بداية صحيحة: من العمل بين الناس، لامن المكاتب.

يملأ الساحة العامة أيضا رجال الدين الإسلامي والمسيحي بلقاءاتهم وصلواتهم المشتركة على الشهداء، واستقبالهم الوفود الزائرة، وقد اغتيل منهم إمام جامع في الميدان، ورجل دين مسيحي. ويبدو الوعي السوري في صورة ساحرة في قوة النساء اللواتي يصرخن بعد كل تفجير: هذه هي الديمقراطية والحرية التي يريدونها؟ هذه هي سلمية، سلمية؟ الله لايوفقهم! وتبتكر مجموعات من النساء أنواعا من النشاط لم يمارسن مثلها قبل الأزمة. أمس، مثلا، عُرضت، برعاية مجموعة من السيدات، لوحات فنية عن الثورة السورية، رسمت بساتين وخيولا وسبلانا دمشقية مزخرفة، فسجلت ذاكرة تاريخية وطنية تواجه استخدام العصابات اليوم تلك البساتين نفسها لإخفاء مخازن السلاح. وتنظم العشائر العربية، التي تمتد حركتها من سورية إلى العراق والأردن والسعودية، اجتماعات كبيرة تدين التحالف الشرير بين الغرب والأنظمة العربية الاستبدادية.

أمس في 2 / 5/ 2012 اغتيل ابن علي حيدر. فرد علي حيدر: "لاتعزوني، فابني شهيد من آلاف الشهداء السوريين". ربما كان المقصود بالاغتيال علي حيدر نفسه وقائمة التغيير المرشحة للانتخابات. ويبدو أن الانتخابات ستجري تحت رصاص القناصة والعبوات الناسفة. فالخلاف لم يكن أبدا على الإصلاح والديمقراطية. قال نتنياهو في بداية الأحداث: كي تتوقف الأعمال العسكرية في سورية يجب أن تغير سورية موقفها من إسرائيل! لانحتاج نتنياهو لنعرف أن سبب الحرب على السوريين أنهم لم يضيعوا أبدا البوصلة: العدو هو الاستعمار وإسرائيل. فتاريخ الأحزاب السورية يسجل الالتزام بالثوابت القومية. وقد أوجز الرئيس حافظ الأسد هذا الموقف التقليدي، فأجاب من طلب منه زيارة إسرائيل: "ليس في سورية من يقبل ذلك، ليس في سورية من يستطيع ذلك". المسألة بأية بنية سياسية واقتصادية نحمل تلك الثوابت الوطنية الكبرى؟

نتائج

في سنة 2003 أزاح غزو العراق قوة عربية طلبت إسرائيل تمزيقها. في سنة 2006 حاولت الحرب الأمريكية الإسرائيلية على لبنان أن تبيد المقاومة اللبنانية. في سنة 2008 قصدت الحرب الإسرائيلية على غزة كسر المقاومة. في سنة 2011 دمرت الحرب الأطلسية على ليبيا، بإدارة صهيونية، قوة عربية وطنية. وفي سنة 2012 جعل الحلف الغربي الإسرائيلي الخليجي الحرب الإسرائيلية في وسط سورية. خطر المنعطف، الذي بدأ بالحرب على ليبيا، أن الأنظمة العربية الاستبدادية أصبحت شريكا لإسرائيل في الحرب على العرب, وأن عصابات عربية وإسلامية تقوم بمهمة الجيش الإسرائيلي والأمريكي. تنبه معركة سورية الآن إلى: 1 - أن إعادة الصراع المركزي إلى مكانه ضرورة للدفاع عن الوجود العربي. 2 - أن الأنظمة الخليجية، التي نبتت في حضن اتفاقات استعمارية، مكلفة بتمزيق المجتمعات العربية الكبيرة ذات التقاليد الوطنية والتاريخية. 3 - أن الإسلام المتطرف موظف في خدمة إسرائيل. 4 - أن القومية الوطنية ثابت تقدمي في الدفاع عن السيادة، لكنه لايستطيع الانتصار دون أن يستعيد محتوى العدالة الاجتماعية، وتنشيط الشعب بالحريات والتنوع السياسي الوطني.

كسبت سورية في هذه الأحداث: 1 - استعادة الشعب دوره الذي سلبه منه السياسيون. 2 – استعادة السوريين سلاسة الكلام، فكل من يوقفه مراسل صحفي يتدفق في تحليل الأوضاع المحلية والعالمية. 3 – تقدمت النساء على الرجال في المظاهرات وفي التحليل السياسي. 4 – وجد الشباب المساحات التي تستوعب حيويتهم واكتشفوا جمال العمل التطوعي والوطني. 5 – ظهر الإجماع الوطني الشعبي على رفض التدخل العربي والأجنبي. 6 – جذبت الأحداث في سورية المفكرين والسياسيين العرب الذين لم تشترهم أموال قطر، لأنهم رأوا أن مصير الحرب على سورية يقرر مصير المنطقة ومستقبل المقاومة العربية.

تفترض هذه النتائج أن يفحص السياسيون مسارهم الماضي، وأساليب عملهم، وسبب غيابهم في المناطق التي شهدت الأزمة. وأن يقدموا الحساب للشعب السوري الذي يدافع عن وطنه.

د. ناديا خوست
3/5/2012

كل اصدارات هذا المقال:
- Syrie : Le peuple syrien fait face à une guerre impérialiste